corner

العدد الثامن - الاصولية الدينية

هذا العدد إهــداء إلى
العالم الفيلسوف الأستاذ الدكتور / مُراد وَهبة.
تحية لنموذج أكاديمي فريد، وإجلالاً وتقديراً لقيمة وقَامة من المنورين المصريين العظام الذين يواجهون بجسارة وشجاعة نادرة جيوش الظلام والتخلف التي تتهيأ لتفرض سلطانها على ربوع الوطن المُفدى .

في هذا العدد

د. عبد الله شلبىالأصولية الدينية : ضبط المفهوم وتعين حدود الظاهرة

د. خيري فرجاني الأصولية الدينية والعنف المقدس

الأنبا مكسيموسالأصوليات الدينية ومكاسب الماضوية

القس رفعت فكري سعيدالأصولية الدينية وتدمير الحضارة الإنسانية.

المهندس/ محمد البدريالمشروع الأصولي وغياب الديمقراطية.

د/عماد عبد الرازقيسؤال النهضة في فكر سلامة موسى.

د.سامية عبد الرحمن سلامة موسى: التنوير بين الفلسفة والعلم والدين.

د سمير فاضل :كاتب وكتاب

ماريا: لوحات فنية

إفتتاحية العدد

د. عبد الله شلبى:
مدير التحرير مجلة الانسان.
دكتور عبدالله شلبي.

      يعتبر صعود الأصولية الدينية واحتلالها صدارة المشهد التاريخي المعاصر بديلاً عن الأيديولوجيات والحركات العلمانية القومية والليبرالية والاشتراكية، ظاهرة كوكبية Globalism شملت أرجاء المعمورة بأسرها وعلى امتداد العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي ومطلع الألفية الميلادية الثالثة والتي يكاد يكون القرن الأول منها هو قرن الأديان بلا منازع. والظاهرة في مجملها تتسم بالعمومية والخصوصية في آن واحد، فهي لا تخص ديناً بعينه ولا حضارة أو ثقافة بعينها، كما أنها لا تقتصر على مجتمع دون غيره من المجتمعات المعاصرة، وإنما هي ظاهرة كوكبية، كما ذكرت قبلاً، وقد زادت حدتها في السنوات الأخيرة إلا أنها أيضاً ليست ظاهرة آنية، بل ظاهرة تاريخية شائعة ويتكرر حدوثها عبر مختلف الأديان والمجتمعات الإنسانية في تاريخها الطويل، وإن اختلفت أسبابها، وتباينت طبيعتها ومظاهرها وتجلياتها وآثارها تبعاً لاختلاف مستوى تطور المجتمعات وتباين أنظمتها الاجتماعية – الاقتصادية، ووفقاً لتشكل الدين ذاته داخل كل ثقافة على حدة.
      وفي تقديري، أن تلك العقود الأخيرة من القرن العشرين المنصرم هي بحق زمن الإحياء والانبعاث الأصولي الديني داخل جميع الأديان الحية على تنوعها وتباينها، في اليهودية، والمسيحية، والإسلام، والهندوسية، والسيخية، والبوذية، والكونفوشية …، وواكبتها تصاعد المد الفاشي وبزوغ الفاشية الجديدة New-Fascism، والتيارات الوطنية السياسية اليمينية المتطرفة في كثير من بلدان أوروبا، وشبه الجزيرة الهندية، والشرق الأوسط والأقصى، وشمال أفريقيا، والولايات المتحدة الأمريكية. وأصبحت هذه الأصوليات والتيارات المتطرفة تهدد بالفعل وعلى نحو بالغ الخطورة، الأمن والسلام والاستقرار داخل مجتمعاتها، كما أصبحت في حالات بعينها تهدد السلام العالمي. فمنذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين بدأت تتكون، وعلى صعيد عالمي، خطابات دينية جديدة تنطوي على أبعاد عديد مركبة ومعقدة تدعو إلى تقديس الثقافات المحلية والوطنية، وتشن في الوقت ذاته هجوماً شرساً وعلى جبهات عديدة ضد ما أسمته بشرور وأمراض الحداثة، خطابات تدعو إلى القطيعة والمفاصلة والعزلة الشعورية والوجودية مع المجتمعات القائمة بدعوى ابتعادها عن منهج الله. وإذا بجماعات كبيرة من البشر تشرع في العودة إلى التعاليم الدينية لدياناتهم بعد هجرانها، ويعملون على تنشيطها وتفعيلها وإعطائها معان ودلالات جديدة. كما تصاعدت معدلات الالتزام الديني، وصور اقتراب والممارسات الدينية من شعائر وطقوس من قبل معتنقي الأديان الحية والتي شهدت أيضاً ظهور حركات أصولية ملتزمة بتقنية تتراوح ما بين الاعتدال والعنف والتطرف والإرهاب في المعتقدات والتقاليد الدينية والدعوة إلى إعادة تشكيل السلوك الشخصي والاجتماعي العام بما يتفق والعقائد الدينية في نقائها الأول.
      وتكاد تكون هذه الحركات الأصولية وما فعلته من أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية واضحة هي الأمواج السطحية الدالة على حدوث مد ديني أصولي أوسع وأعمق أعطى شكلاً مختلفاً للحياة الإنسانية في نهاية القرن العشرين المنصرم. ولقد تخطى الأحياء والتجديد الديني الأصولي في مختلف أنحاء العالم نشاطات وفعاليات الحركات الأصولية التي اتخذ بعضها منحى العنف والارهاب، وتجلى ذلك التخطي في الواقع المعاش، وحياة الناس اليومية وسياسات الحكومات، وحركات المعارضة، بحثاً عن مصادر للشرعية وتبريراً للممارسات، وللتعبئة والحشد الجماهيري، وتأسيس القواعد الاجتماعية المؤيدة والمدافعة، وفي الاستخدام المتزايد للرموز واللغة الدينية المشبعة بالأصداء المقدسة، وانتشار التعليم الديني واتساع قاعدته وتزايد أعدد طالبيه. لقد شهدت الاديان الحية جميعها في عالمنا المعاصر، تحولات دينية وسياسية هائلة ومتفاوتة، وكان صعود الحركات الإحيائية والأصولية الدينية مؤشرات مهمة تؤكد في مجملها على العودة القوية والمدوية للأديان وتواجدها الواضح على امتداد الفضاءات الاجتماعية في كليتها وشمولها. وهي تدحض ما تواضع عليه الفكر الاجتماعي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بشأن اضمحلال الدين وزواله، أو عجزه عن القيام بدور فعال في المجتمعات المعاصرة بفعل التحديث وما يفرضه ويشيعه من علم وعقلانية وبرجماتية، وقضاء على الخرافات والأساطير والطقوس التي قد تكون جوهر الأديان الحية في عالمنا الذي يتعين عليه أن يكون، وفقاً لمنظومة الحداثة، عالماً متسامحاً، عقلانياً، علمياً، تقدمياً، إنسانياً، وعلمانياً. ولكن نهاية الألفية الميلادية الثانية تشهد تبدد هذه الآمال والتوقعات مع الانتشار الواسع لدعاوي الإحياء الديني في كل قارة وكل دولة، وكأن التوجه نحو العلمنة بكل أبعادها ومستوياتها، والتوجه نحو تكييف الدين مع العلمانية قد أخذ وجهة معاكسة، إذ ظهر داخل مختلف المجتمعات والأديان، سماوية كانت وغير سماوية، توجهات دينية جديدة لا تسعى إلى التكيف مع القيم العلمانية، وإنما تسقطها تماماً وتعمل على استرجاع واستعادة الأسس المقدسة لتنظيم المجتمعات وضبط حياة البشر على مستويات وجودهم كافة، وتسعى لتغيير المجتمعات جذرياً وقلبها إذا اقتضى الأمر، واستخدام طرق متعددة ومتباينة للتعبير عن ذلك ولجعله حقيقة واقعة.
      ويحاول العدد الحالي من مجلة الانسان معالجة مفهوم الأصولية الدينية حيث يعالج الدكتور عبدالله شلبي في مقاله : "الأصولية الدينية ضبط المفهوم وتعيين حدود الظاهرة"، بينما يقدم الدكتور خيري فرجاني معالجة أخرى لهذا المفهوم عبر مقاله: "الأصولية الدينية والعنف المقدس"، ويناقش الأنبا مكسيموس قضية "الاصوليات الدينية ومكاسب الماضوية" ، ويعالج القس رفعت فكري قضية: "الأصولية الدينية وتدمير الحضارة الإنسانية"، ويتناول الدكتور عماد الدين إبراهيم عبد الرازق: "سؤال النهضة في فكر سلامة موسى"، ويناقش المهندس محمد البدري قضية "المشروع الأصولي وغياب الديمقراطية"، وتعالج المهندسة منال أحمد موضوع "سلامة موسى بين الفلسفة والعلم والدين"، ويقدم الدكتور سمير فاضل عرضاً لكتاب " دليل الاستبداد والمستبدين".
مدير التحرير.
دكتور / عبدالله شلبي.



image

اﻟﺪﻳﻦ ﻭاﻟﻤﺠﺘﻤﻊ

د عبد الله شلبي
الأصولية الدينية : ضبط المفهوم وتعين حدود الظاهرة .
د عبد الله شلبي

      ثمة مفاهيم ومصطلحات ومسميات برزت بإلحاح وإصرار في الوعي الجماهيري داخل مختلف المجتمعات المعاصرة ، ويكاد المرء لا يفيق أو يلتقط أنفاسه من بعضها حتى يجد الزحف البشري يفاجئه بأخرى جديدة تزداد صعوبة وتعقيداً يوماً بعد يوم . ومن هذه المفاهيم والمصطلحات والمسميات العولمة ، وصراع الحضارات ، ونهاية التاريخ ، وجنون العولمة ، والحداثة ، وما بعد الحداثة ، وتحولات القوة ، والإرهاب ، والأصوليات ... وعلى امتداد الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم ومطلع القرن الحالي جاء مفهوم الأصولية Fundamentalism على قمة هذه المفاهيم والمصطلحات والمسميات . والأصولية لغوياً ، هي من الأصول Fundamentals وهي لفظة إنجيلية مشتقة من لفظ Foundation بمعنى أساس – ويؤرخ لظهور مصطلح الأصولية في الدوائر الغربية على تنوعها بعام 1920 م ، عندما صكه رئيس تحرير إحدى المجلات الأمريكية في افتتاحية عدد يوليو من نفس العام حيث عرف الأصوليين بأنهم من يناضلون بإخلاص من أجل العودة إلى الأصول . وقد شاع المصطلح إثر نشر سلسلة من أثنتي عشر كتيباً صدرت في تلك الفترة التاريخية في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنـوان " الأصول Fundamentals" ، وكانت تضم تسعين مقالة حررها رجال الدين المسيحى الأمريكيين المعارضين لأية تسوية تتم ، أو أي حلول وسط مع الحداثة والليبرالية المخيمة على أرجاء المجتمع الأمريكي آنذاك . وقد نشرت هذه السلسلة من الكتيبات ومولها شقيقان كلاهما من رجال الأعمال الأمريكيين ، ووزع منها نحو ثلاثة ملايين نسخة بالمجان.
      وتحددت الأصولية المسيحية على وجه الدقة في هذه الكتيبات ، ثم في الدراسات الغربية بالإطلاق من خلال عدة مبادئ منها أنها تقف بشكل مباشر ضد الليبرالية في مجال اللاهوت ، والثقافة السياسية ، وبأنها مع إقرار العصمة المطلقة للكتاب المقدس ، واعتبار العهدين القديم والجديد التعبير الحرفي عن الحقيقة الإلهية وخاصة كل ما يشتمل عليه الكتاب المقدس من مقتضيات معنوية ، أو أخلاقية ، أو سياسية ، أو اجتماعية . وبالتالي فالأصولية تكون ضد التأويل التاريخى والنظرة النقدية للمعتقد الإيمانى المسيحى، فهي تهاجم تيار نقد الإنجيل ، ودعاوى الفحص الحر لنصوصه المقدسة اعتماداً على أعمال العقل في هذه النصوص ، وهي ضد النظريات العلمية بالإطلاق وبالتخصيص ضد نظرية التطور المهددة لقصة الخلق الإلهي للكون على نحو ما جاءت في سفر التكوين ، لأنه إذا لم يكن الله خالقاً للعالم في ستة أيام ، فإن سفر التكوين يعتبر باطلاً ، وإذا كان سفر واحد باطلاً فالأسفار جميعها تكون باطلة . وتؤكد الأصولية المسيحية على ألوهية المسيح ، وخلاص النفس من الخطيئة نتيجة العمل الفعال لحياة المسيح ، وعذاباته، وصلبه ، وموته ، وقيامته الجسدية . ويضاف إلى ذلك كله واجب الالتزام بالتبشير النشط والفعال تجاه من لم يعتقدوا أو لم يؤمنوا بهذا المعتقد ، واستبعاد أية حلول وسط أو توفيقية فيما يتعلق بالحوار بين الأديان ، أو مع العلمانية وعلى وجه الخصوص مع منظومة الحداثة بالإطلاق في الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية.
      ويشكل مفهوم الأصولية الآن دلالة مذهبية وأيديولوجية خاصة وواسعة في آن واحد ، إذ لم تعد هذه الدلالة تنطبق على الدين وحده فحسب ، وإنما أصبحت تشير إلى كل أنماط الدفاع بأساليب تقليدية عن الموروث والتقليد الثقافي ، كما تشير إلى أنماط الرؤى التي تتخذ من الأصل سواء كان نصاً دينياً ، أو مذهباً دينياً ، أو سياسياً ، أو جذراً عرقياً ، مرجعاً أساسياً لها ، وسنداً مطلقاً ونهائياً لمفاهيمها وتصوراتها وسلوكها . وعليه فإن مفهوم الأصولية وإن كان قد استخدم بداية لتوصيف التحولات الدينية السياسية في أجزاء متعددة من العالم المسيحى الغربى وللدلالة على الحركة الإنجيلية المحافظة ، إلا أنه يستخدم الآن لوصف الحركات القومية والعرقية المتطرفة ، ولوصف الجماعات والفعاليات والحركات الأصولية الإسلامية ، والأصولية اليهودية ، والعناصر الانفصالية والقومية في مجتمع السيخ شمال الهند ، وحركة تحرير التاميل في سريلانكا ، والجماعات الهندوسية المعارضة لتأثيرات التبشير المسيحى الغربى في الهند ، وحركات الإحياء البوذية والكونفوشية في مجتمعات شرق آسيا.
      وفي تقديرى ، أن أية مرجعية يمكن أن تصبح أصولية حال تكرار هذه المرجعية والتأكيد على نقائها وتميزها وزعمها التفرد بامتلاك الحقيقة على الإطلاق واحتكارها ثم طغيانها بشكل مطلق لتصبح نهجاً مسيطراً . وبذلك تكون الأصولية نسقاً في الرؤية والمنهج ، ينسحب على كل ما يصدر من آراء ومواقف سعياً لإخضاع الحاضر وتطويعه لمرجعية نصية ، وبحسب قراءة بعينها للنصوص يغلب عليها الحرفية النصية والإطلاقية . وفي الأصولية الدينية تكون سعياً إلى فرض قراءة بعينها للنصوص الدينية المقدسة وما ينتسب إليها على كل شؤون الحياة والمجتمع ، وتفسير كل شيء ، والحكم على كل ظاهرة بمقتضاها ، وبحيث تصبح النصوص الدينية هي المعيار الأساسي والوحيد للسلوك والحكم والتقييم دون مراعاة لما يستجد من أوضاع وأحوال . ولهذا يطلق على الأصولية أنها رؤية تمامية لاشيء خارجها وهي متعصبة لرؤيتها الخاصة الشاملة التي لا يخرج عنها موقف أو حكم أو قيمة ، وهي ترفض كل ما يخرج عن رؤيتها إلى حد الإقصاء والتفكير والإبادة الجسدية.
      والأساس فى الظاهرة الأصولية الدينية المعاصرة هو العودة إلى أصول الإيمان والمعتقد الديني لتصبح إطاراً ناظماً لحياة البشر داخل المجتمع الإنساني ، وذلك عن طريق الالتزام بالتفسيرات النصية الحرفية للنصوص الدينية المقدسة ، والوقوف عند حد المعاني اللغوية الظاهرة في كلماتها في ضوء اللحظة التاريخية الأولى لصياغة هذه النصوص ، وكأن الأصوليين يقرأون نصوصهم بعيون الموتى العاجزة عن الاجتهاد والنقد ، فضلاً عن عجز الرؤية ذاته ، لأن الموتى قطعاً لا يبصرون. والنصوص في عرف الأصوليين ليست موضع تساؤل أو شك ، وعلى المؤمنين بها والمخلصين لكل ما تحويه أن يعيشوا حياتهم ويوجهوا نشاطاتهم وفقاً لها ، وأن يرفضوا أي تأويل تاريخي لها ، أو أعمال العقل فيها . وتلتقي كل الأصوليات الدينية حول فكرة أن النصوص المقدسة ، والتي تمثل مرجعيتها الأعلى ، تحتوي على كل الحقائق الأبدية الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان ، وهذا ضمان معصوميتها من الخطأ ، وهذه النصوص مكتفية ذاتياً وتحمل إجابات نهائية عن كل الأسئلة الحاضرة والمستقبلية .
      وتعمد الأصولية إلى إحالة قضايا البشر كافة على تنوعها وتباينها إلى الدين ، وهي تزعم بأن هذه القضايا ذات أساس ديني وبما يعنيه ذلك من الانحياز والارتداد إلى أنساق فكرية تتأسس على التمسك الصارم والحرفى بالقواعد والممارسات والتقاليد المنحدرة من الأسلاف ، وهذه الأنساق لا يمكنها البقاء والاستمرار والازدهار في ظل الثقافة الليبرالية التى تتأسس على العقلانية ، والإبداع ، والعلمانية ، والتسامح ، والنسبية ، وإطلاق المبادرات الفردية ، وحرية التعبير والفعل الإنسانى.
      ويشكل ما تقدم مضمون الأصولية الدينية ، وإن كان ثمة خصوصية فهي مردودة إلى أن الظاهرة الأصولية تتشكل بتشكل الدين ذاته ، والثقافة ، والمجتمع الذي يضمهما معاً ، فتأخذ شكلاً يهودياً ، أو مسيحياً ، أو إسلامياً ، أو بوذياً ، أو هندوسياً ... ويعني هذا أيضاً ، وكما ذكرت قبلاً ، أن ثمة وحدة كامنة تجمع بين الأصوليات الدينية على تنوعها وتباينها ، بل وصراعها أيضاً . فالأساس في الظاهرة التى أخذت فى التنامى والصعود على امتداد السنوات الأخيرة من الألفية الميلادية الثانية ، ومطلع الألفية الثالثة هو الدعوة إلى معالجة القضايا المعاصرة الاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والثقافية ... عبر سفر تراجعي في التاريخ من خلال العودة إلى مصادر الإيمان والاعتقاد الخالص من كل التحريفات والتأويلات ، والعودة إلى ما أنتجه السلف وخلفوه من قيم وممارسات ونظم . فثمة نموذج مجتمعي كامل منزوع من سياقه التاريخى ، ونابع من نظرة أسطورية للماضي . ومن ثم فالهدف الأصولي الأول هو العمل على إعادة خلق وإحياء عصر ذهبي وجد في الماضي السحيق.
      ولكن لما كانت أية دعوة للعودة عبر الزمان هي بالقطع مستحيلة ، بل ومثيرة للسخرية ، هذا ما لم نركب آلة الزمان الأسطورية العجيبة ، أو نجتر ذكريات الماضى ، فإنه يتعين علينا أن نبحث عن المصالح الكامنة وراء دعاوى العودة إلى الأصول ، ليس فى مجال الأديان والعقائد ، وتوهم أن ما يحدث هو مجرد تدين ، أو جرعات زائدة من التدين ، أو أن البشر كانوا قد نبذوا دياناتهم وراء ظهورهم ثم عادوا إليها وتمسكوا بها . إن القضية المحورية فى هذه الظاهرة هي أن الظروف الراهنة في المجتمعات التي شهدت الفعاليات الأصولية بكل أبعادها ومستوياتها ، طرحت ضرورة استخدام الدين في تحركاتها وتفاعلاتها . وعليه فالبحث في الأصولية يجب أن يمتد ليشمل مجمل الشروط المادية وغير المادية ، الذاتية والموضوعية التى شكلت المناخ الملائم لنشأة ونمو وتصاعد دعاوى العودة إلى الأصول Fundamentals
      ويعتبر مفهوم الحركة الأصولية الدينية السياسية مفهوماً ملائماً هنا في تقديري ، لأنه يؤكد على البعد الاجتماعي السياسي لدعاوى العودة إلى الأصول إلى جانب بعدها الديني، الأمر الذي يعني أننا حين نتصدى لدراسة وبحث الحركات الأصولية الدينية المعاصرة نكون بصدد موقف اجتماعي وسياسي بالضرورة للقوى الاجتماعية والسياسية الحاملة لدعاوى العودة إلى الأصول . وهذا الموقف يكون مصحوباً بحالة من التعبئة السياسية باسم العقيدة والدين على المستويين الفكرى والنفسى . وهذه الحالة تضع صاحبها فى إطار النصوص المحفوظة وتنتهي به طائعاً مختاراً إلى التنازل عن إرادته الخاصة ومواقفه وآرائه لحساب النصوص الدينية وحراسها أو من يلوحون بها ، وهذه النصوص ذات سلطة مقدسة ومطلقة تتجاوز حدود الزمان والمكان ، وتنفي صحة كل الحقائق الأخرى ، إذ ينفي حراس النصوص وسدنتها أن يكون العالم قد تغير ومن ثم يكون جمودهم المعارض لكل تطور وتحول ، ويكون الانزلاق إلى الماضى بارتداد ونكوص مستحيل لأنساق حياتية دينية ، وقومية أو عرقية.
      ويسعى الأصوليون إلى تفعيل سلطة النصوص وهذا الارتداد من خلال دعوتهم للعودة إلى صحيح الإيمان والحقيقة الإيمانية النصية الحرفية ، والإتباع الصارم لها دون تأويل . ولذلك فان سؤال الأصولية هو . ماذا كنا ؟ ، ولماذا لا نكون على ما كنا عليه ؟ ويزعم الأصوليون أن الرجوع إلى الأصول هو الطريق لأى مستقبل ممكن ، وهم يلحون ، وبإصرار ، على ضرورة أن تكون التغيرات الاجتماعية في مجتمعاتهم ، محكومة بالنصوص والأصول المقدسة في نقائها الأول ، وبالقيم وأنماط السلوك التي انحدرت إلينا الأسلاف لأنهم عدول . ويذهب الأصوليون إلى أن ثمة قصدية إلهية ومخطط إلهى لهذا العالم ، وعليه يجب إقامة سلطان الإله على الأرض من خلال انشغال الدين وعبر نصوصه المقدسة بتنظيم حياة البشر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ... ، بكل مستويات وجودهم الفردية والاجتماعية ، وليس الانشغال بخلاصهم الفردى فحسب . ولهذا تبدو الأصولية والأصوليين وكأنهم المدافعين عن وجود الله وحقوقه وعن حاكمية النصوص الدينية المقدسة، وهم ينشدون فرض رؤيتهم على العالم بكامله .
      إننا فى مواجهة الأصولية ، داخل مختلف الأديان والمجتمعات ، نكون بصدد حركة اجتماعية سياسية Social Political movement ذات شكل ديني أصولي . وهذه الحركة قد تعم المجتمع بأسره فتتغلغل طبقاته وشرائحه الاجتماعية كافة ، كما يمكن أن تكون تعبيراً عن صعود طبقة اجتماعية بعينها ، أو تجسيداً أيديولوجياً لتحالف طبقات محددة داخل المجتمع ، وهذا التحالف الطبقي يعتمد الدين باعتباره صيغة من صيغ الوعي الاجتماعي ، كإطار أيديولوجى ومرجعى له . ومن ثم فالحركة الأصولية الواحدة يمكن أن تحوي في داخلها العديد من التيارات والجماعات المنظمة وغير المنظمة ، السرية وتلك التي تعمل في العلن ، الرافضة للنظام القائم في مجتمعها بكليته والتي تعمل على قلبه وتغييره جذرياً ، وتلك التى تقبل النظام القائم وتعمل من خلاله وإن كانت تقر بافتقاده للمشروعية وتضمر النية على قلبه وتغييره أيضاً . وجميع هذه التيارات يمكن أن تتباين برامجها وأساليبها فى العمل، كما يمكن أن تتصارع حول البرامج والممارسات الآنية ، إلا أنها على الصعيد الاستراتيجى تجمعها وحدة الهدف الأقصى ، وهو إقامة مجتمع ودولة ، بل وعالم بكامله على أساس أصولى دينى .
      وبالنظر إلى الدين بحسبانه صيغة جماهيرية من صيغ الوعي الاجتماعي ، ينشغل بالهَم والقلق الإنسانى ، ويوفر للبشر ويزودهم بالإحساس بالهوية الشخصية والاجتماعية ، ويدفعهم إلى تفضيل وقبول انساق معينة من الأساطير والرموز المصحوبة بطقوس وشعائر محددة ، كما يتضمن أيضاً رؤية كونية وميتافيزيقية ، وقواعد محددة لأنماط السلوك والتفاعل بين البشر ، أقول بالنظر إلى ذلك كله ، فإن هذه الصيغة من الوعي قد تسود بشكل واضح في أوساط الجماهير ، وتسيطر بالكامل في بعض الأحيان على صيغ الوعي الاجتماعي الأخرى وذلك في ظل شروط تاريخية بنائية معينة ، وفي مناطق بعينها من العالم ويتم استخدامها كأداة في الصراع الاجتماعي والسياسي ، فتكون أداة للضبط والسيطرة ، كما تكون أداة للمصالحة مع الواقع ، كما يمكن أن تستخدم كأداة للتحريض والتمرد والثورة على الأوضاع القائمة . فالدين هنا كأحد مكونات البنية الايديولوجية للمجتمع ، يعتبر عاملاً نشطاً فعالاً في الحياة السياسية ، وله تأثيره على المؤمنين به حيث تنعكس الرؤى والافكار ، والقيم الدينية على عقلية ونفسية وطموحات وآمال المؤمنين والمتدينين ، وعلى طريقة فهمهم للعالم ، وسلوكهم الاجتماعى وتصرفاتهم السياسية.
      ولما كان من غير المنطقي التفكير في الحركات الاجتماعية دون النظر إلى مساهمات البشر بوعيهم وإرادتهم وتباين انتماءاتهم الطبقية الاجتماعية ، فإن ذلك يعني بالضرورة أن كلاً من الدين والحركات الاجتماعية والسياسية تجمعهما نفس الجماهير . وإذا كان الأساس فى الحركة الاجتماعية والسياسية هو السعي لإحداث تغييرات تتفاوت في اتجاهاتها ومداها بما يحقق مصالح القوى الاجتماعية المكونة للحركة ، فإن هذه القوى يتعين عليها أن تناضل وتكافح وتخوض صراعاً اجتماعياً وسياسياً ضد القوى الاجتماعية الأخرى التى ربما تتطلع للحفاظ على الوضع القائم ، أو تبغي أن يكون التغيير في منحى آخر يختلف عما تريده القوى المكونة للحركة .
      ويعتبر الصراع الأيديولوجي ، في سياق الصراع الاجتماعي بكليته ، من الوسائل الضرورية لتأسيس التحولات الاجتماعية وفرضها . حيث تلجأ القوى الاجتماعية المتصارعة إلى مختلف الأيديولوجيات المتاحة لتعبئ وتؤسس قواعدها الاجتماعية ، وهنا تكون التعبئة الأيديولوجية سلاحاً مُهماً تستخدمه القوى ، أو الطبقات الاجتماعية ، المتصارعة لتبرر مصالحها ، وتكتل الجهود والإرادات الواعية وتنظمها وتحركها في اتجاه إحداث التغيير . وعمليات التعبئة الإيديولوجية هذه يمكن ، في ظل ظروف محددة ، أن تتم باسم الدين والعقيدة الدينية حيث يتم اعتماد الدين من قبل حركات اجتماعية سياسية بعينها كإطار أيديولوجى مرجعى تبرر من خلاله وبأسمه رفضها للواقع الراهن وسعيها لتغييره وهنا نكون بصدد حركات اجتماعية سياسية ذات شكل ديني لأن هذه الحركات وإن ربطت اسمها بالدين أو العقيدة ، واستلهمت أطرها المرجعية منه ، إلا أنها لا يمكنها بحال أن تنخلع من انتمائها إلى تناقضات واقع مجتمعاتها والتي تعتبر هي إفرازاً لها فهي تطمح كغيرها من القوى الاجتماعية المتصارعة إلى السيطرة على سلطة الدولة لأستخدامها في إحداث التغيرات التي ترتضيها وتحقق مصالحها إلا انها في صراعها تعتمد الدين من أجل تحقيق أهدافها.
      ويعني هذا بالضرورة أن منهجية تحليل الحركات الأصولية الدينية يجب أن تعتمد التحليل التاريخي البنائي لمضمونها الاجتماعي السياسي ، وبحيث ينصرف الاهتمام البحثي إلى الكشف عن المتغيرات التي تفسر نشأة الحركات الأصولية ليس في داخل الدين أو المعتقد ، أو دوافع الإيمان ، وإنما في مجمل الشروط الاجتماعية المادية الذاتية والموضوعية التي أنتجت الحركة. ولما كانت الحركات الأصولية الدينية السياسية تسعى إلى تغيير واقع مجتمعاتها تغييرا جذرياً ، فهي تتبني مواقف حدية وقطعية تجاه هذا الواقع لتبرر رفضها له ومطالبتها بتغييره . فالحركات ترفض الواقع الراهن ، وتنتقل من وضعية الرفض إلى وضعية المواجهة وطرح البديل لما هو قائم . وثمة حركات أصولية دينية تسعى إلى خلق مجتمع خاص بها من خلال العزلة والمفاصلة الشعورية أو الوجودية مع مجتمعاتها ، في حين تسعى حركات أخرى إلى المواجهة المباشرة بالأنخراط في الصراع السياسي ومن خلاله تسلب الواقع الراهن مشروعية البقاء ، وتنتهج وسائل متباينة من أجل إقرار التغيير تتراوح ما بين استخدام الألفاظ والكلمات ، والعنف المادي المباشر كوسيلة لتحقيق الأهداف وفرض البديل الجديد على المجتمع . وينهض الدين في هذا السياق بدور بالغ الأهمية ، كما ذكرت قبلاً ، في عمليات إعادة ترتيب القيم القديمة من خلال طرح الحركات لخطابات دينية متميزة تنطوي على إعادة الاعتبار لأحداث وأشكال وقيم الماضي ، وإعادة ترتيبها باعتبارها تشكل بؤرة الهُوية الجمعية ، وطبيعة النظام الاجتماعي والثقافي ، واعتبار الالتزام بالماضي أساس الشرعية والمبرر النهائي لكل تغيير ممكن الحدوث ، كما تنطوي خطابات الأصوليات الدينية على الدعوة إلى تغيير الأدوار السياسية ، وإضفاء طابع ديني على قضايا الاقتصاد والاجتماع ، والسياسة ... ، أو رؤية هذه القضايا بمنظور ديني يهدف إلى إعادة بناء علاقات السلطة والقوة ، بما يحقق مصالح الطبقات ، أو القوى الاجتماعية والسياسية المكونة للحركة.



دكتور / خيري فرجاني.
الأصولية الدينية والعنف المقدس
دكتور / خيري فرجاني.

      لكل مفهوم ظروف موضوعية خاصة وراء انبعاثه، وهذه الظروف لها تأثيرها في ملامحه وتشكله الثقافي. ومن ثم، فإن دلالة المفهوم تعتبر أمراً ضرورياً لتحديد ملامح هذا المفهوم واستخداماته المختلفة، التي لا شك أنها ضرورية من أجل نقله وتبيئته في الثقافة العربية. ويعتبر مفهوم الأصولية (Fundamentalism) ، من المفاهيم الإشكالية التي تثير الكثير من المشكلات المفهومية والفلسفية معا، فهي وليدة إطار ثقافي غربي له مواضعاته الثقافية التي تختلف عن الفكر العربي الإسلامي. حيث ان مفهوم الأصولية في التراث العربي يختلف عنه في الفكر الغربي، ويطلق لفظ “الأصول” على مصطلحات مختلفة، أشهرها ما يدل على ثلاثة من العلوم الإسلامية هي: أصول الدين، وأصول الحديث، وأصول الفقه، ويسمى علم أصول الفقه-غالبا- علمَ الأصول، وهذا هو المفهوم التقليدي للأصولية في الفكر العربي الإسلامي، أما الأصولية بمفهومها الغربي الحديث فهي اصطلاحٌ سياسي فكري مستحدث, يحاول توصيف عدة سلوكيات، وتمتلك نظرة متكاملة للحياة بكافة جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, نابعة عن منظومة قناعات، تكون في الغالب تصوراً دينياً أو عقيدة دينية.
      ظهرت الأصولية في الولايات المحتدة الأمريكية في مطلع القرن العشرين إذ يُرجع ريتشارد دكميجان أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيويورك أصل الأصولية إلى فرقة من البروتستانت التي تؤمن بالعصمة الحرفية لكل كلمة في الكتاب المقدس، ويدّعي أفرادها التلقي المباشر عن الله، بالإضافة إلى معاداتهم للتفكير العلمي، وميولهم إلى استخدام العنف والقوة لغرض فرض معتقداتهم. وفي سنة 1984 عرف معجم الكبير "لاروس"، الأصولية أنها موقف داخل الحركة الدينية يتسم بالجمود والتصلب، والمعارضة والرفض لكل جديد ولكل تطور. وهذا المفهوم الغربي الحديث للأصولية هو الذي يقابل مفهوم جماعات الإسلام السياسي التي ظهرت في آواخر العشرينيات من القرن الماضي، وبالتحديد في 1928م، بظهور جماعة الإخوان المسلمين. ومن ثم، ظهر مفهوم الأصولية كمحاولة من قبل الباحثين الغربيين لتوصيف ظاهرة دينية راديكالية تتسم بالشمولية؛ لتوصيف الحركات الدينية المسيحية في الغرب سواء كانت كاثوليك أو بروتستانتية، أو ما يقابلها في الفكر الإسلامي "جماعات الإسلام السياسي". ومن لوازم الأصولية، رفض التطور ومحاربة العلم وعدم التكيف مع ظروف الحداثة والمعاصرة، كما تراها المنظومة العلمانية. ومن أهم تلك المظاهر التشبث بالماضي التراثي، والمطالبة بالعودة إليه كمرجع رئيس في مواجهة الحداثة المعاصرة. وهذا، يعكس مفهوم القطيعة التي ترفضه الحداثة. وتصفه بأنه يحمل خطاباً إقصائياً يرفض الآخر، ولا يقر ذهنية التسامح والحوار، ويستخدم بدلهما القوة والعنف الفكري والمادي، والعودة للماضي والتراث.
      وتتخذ الأصولية الدينية المتطرفة مواقف متشددة، وغير متفهمة للسلوك البشري، وترفض المرونة الاجتماعية في التعامل مع هذا السلوك، فهي دائمًا تتصلب في فهمها لكل مجالات الحياة، فهي ترفض الفنون والموسيقى وتعتبرها من المفسدات، كما يغلب عليها طابع التشدد، وعدم ترجيح العقل في أحكامها، وتتسم بكونها تحتكر الحقيقة المطلقة، وتمارس العنف – المبرر والمقدس- من أجل الوصول إلى غاياتها، فالأصولية تعتمد معايير تصنيف للآخر بوصفه مختلفا عنها؛ ولهذا تنتهج معه سلوكا إقصائيا، هذا السلوك ألحق تشوهات في المجتمعات الإسلامية من خلال بتر وتصفية كل المدارس والمذاهب الفكرية المخالفة لها والتي وسمتها بالزندقة والانحراف.
      وتتمثل القواسم المشتركة بين الأصوليات الدينية في عدة ملامح ، تُكون الأصولية المتطرفة، منها: الشمولية، والنصوصية، والانحياز المطلق، والأحكام المسبقة، وهيمنة النزعة المحافظة فهي تعارض النزعة التحررية أو التنويرية أو الحداثية؛ لأنها تقوم على التقليد دون تجديد، والأصولي المتشدد متناقض مع نفسه، إذ يمارس حياته اليومية وفقًا لنظرة ماضوية قديمة، إلا أنه – في ذات الوقت- يستخدم وسائل الحداثة في النقل والعلاج والاتصال والبناء والتسليح ويستخدم أحدث التقنيات في التفجيرات. بيد أنه، يرفض الأسس الحديثة لنظريات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، فإنه يرفضها بشدة، ويعتبرها من محدثات الأمور وشرها، لأنها تتعارض مع فهمه للحياة من خلال موروثه الأصولي السلفي الرجعي.
      وتعني الأصولية الانسحاب والانفصال عن الثقافة المعاصرة وترفض العلاقات الاجتماعيّة، وتقوم على أساس قمع التنوّع، ومعارضة الديمقراطيّة والتعدديّة، وتجرم الفكر المتحرّر، وتدعوا بشدّة لإقامة دولة شموليّة توسعيّة. كما أنها تنتهج فكرا وخطابا وسلوكا عنيفا، هذا السلوك العنيف هو العنصر الأكثر إثارة للأصولية المتطرفة، فاستخدام العنف باسم النزعة المحافظة في خدمة كل ما هو مقدس هو ما يلخص الحركة الأصولية، ويكون استعمال السلاح وسفك الدماء والقتل الجماعي، وبتر الأعضاء عقابا للاختلاف، وطردا وعزلا للأقليات من خلال التمييز القبلي، والتطهير العرقي، والإرهاب، وكل هذا يندرج تحت مزاعم الجهاد فهو عنف مبرر ومقدس.



image


الأنبا مكسيموس.
الأصوليات الدينية ومكاسب الماضوية
 الأنبا مكسيموس.

      برز دور الدين ورجالاته في التأثير الشعبي سلبًا وإيجابًا علي السلطة السياسية منذ بلورت الحضارات الإنسانية نفسها في أشكال سياسية، ولهذا حفل التاريخ بأشكال التحالفات بين السلطة والدين أو الصراع بين الإمبراطور والبابا. غير أن الصراع الديني لم يكن فقط صراعاً دينياً سياسياً؛ أو صراعاَ دينياً / دينياً، ولكنه تطور لاحقًا في حركات دعوية شعبية جمعت في نفسها العناصر الثلاثة :القومية ،والدينية، والسياسية طبعًا مع الدفع الشعبوي فأخرجت للعالم ما عرف بعد ذلك بالأصوليات الدينية .وإذا توقفنا عند مقارنة الصراع الديني في أيرلندا الشمالية بين الكاثوليك والبروتستانت ؛ بالجماعات الإسلامية في الشرق ؛فسنجد تطبيقاً عملياً لهذه المعطيات فالحركة الأصولية تري نفسها ممثلا للقومية (للشعب) ومفوضة منه لأحداث التغيير أو الدفاع عنه، وأنها وحدها التعبير الرسمي عن رأي صحيح الدين ؛ وأنها تقوم بالدور الذي كان واجبًا علي السلطة السياسية القيام به ولكنها تقاعست عنه.
      ونشير في هذا السياق ايضاً إلى أن الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين كان يعتبر نفسه المتحدث الرسمي باسم الشعب والإسلام في آن واحد ؛ كما رأت جماعة الأمة القبطية كذلك نفسها وصياً علي الكنيسة لتزيح البطريرك. فالجماعة الأصولية المسيحية بهذا التطبيق لا تري نفسها سلطة إصلاحية موازية للكنيسة؛ بل تري نفسها سلطة بديلة أعلي من سلطة البطريرك . ومن ثم فإن الجماعات الأصولية تستحل لنفسها من وجهة نظر ثورية سلطات الدولة والمجتمع مدعمة نفسها بالشرعية الدينية ؛ التي تحض علي كراهية الآخر فداءً للحفاظ علي الأصولية. وبعد أن رفعت جماعة الإخوان كل الشعارات الدينية والاصلاحية الجذابة يتكشف لنا في اليوم التالي لتوليها السلطة أنها تعمل لا لصالح الدين ولا الوطن ولكن لصالح الفكرة الأصولية والجماعة فقط ودون غيرها.
      الأصولية إذًا في حقيقتها هي حركة رفض للآخر حتي القتل وكل أشكال الإزاحة؛ بتأكيد شرعية وجودها علي أساس أوضاع ماضوية كانت لصالحهم وقد زالت وفي هذا السياق ايضاً يمكن النظر إلى جريمة اغتيال أسقف ورئيس دير الأنبا مقار قبل عام على أنه إجراء إنتقامي لإرهاب البابا؛ بسبب ما أقدم عليه من خطوات إصلاحية وتغيير في المناصب والتكليفات والذي اعقبه حملة دعائية واسعة للتأكيد علي أن جريمة القتل كانت تصرفاً فردياً لراهب غير منضبط؛ وأنه لا توجد داخل الكنيسة حركة أصولية تقاوم البابا الحالي وتؤصل نفسها علي حبرية البابا السابق ؛ واعتبار مثل هذا الكلام عار من الحقيقة وصيد في الماء العكر، حتي خرجت علينا قناة هذه الحركة الأصولية الموجودة هنا في أميركا بالإعلان في أحد برامجها ؛ تؤكد فيه أن البابا الراحل ما يزال باق في مكانه علي كرسيه؛ وأن وفاته لا تعني خلو كرسيه منه .
      وختاماً أود التأكيد على أن الحركات الأصولية هي وباء الكراهية والانقسامات في كل القوميات والأديان ؛ وما حصده المصريون من التساهل مع الأخوان المسلمين ووصولهم إلي الحكم ؛ سيحصده الأقباط قريباً جراء تهاونهم في احترام مكانة بطريركهم الحالي لحساب الأصولية التي تؤسس وجودها علي حبرية البابا الراحل .



القس رفعت فكري سعيد.
الأصولية الدينية وتدمير الحضارة الإنسانية.
 القس رفعت فكري سعيد.

      بين الحين والآخر وفي لحظات قلائل يتحول العديد من البشر الأبرياء إلى جثث وأشلاء، بسبب عدد من الإرهابيين الظلاميين أعداء الحضارة وأعداء الإنسانية، إرهابيون لا هم لهم سوى تصنيف البشر هذا مسلم وهذا كافر، والكافر يجوز نحره وإراقة دمه إرضاء لله الذي أمرهم بالقتل كما يزعمون. وما يقوم به هؤلاء الإرهابيون من قتل وذبح للأبرياء، يُعتبر جريمة نكراء في حق الإنسانية، وأعمال إرهابية دنيئة خسيسة، وتكمن المشكلة الرئيسة التي تدفع هؤلاء السفاحين لارتكاب جرائمهم في "الأصولية الدينية" التي تتبنى تفسير النصوص الدينية بحرفتيها منزوعة من سياقها التاريخي والحضاري، والأصوليون الدينيون يقومون بالتفسير دون اعتبار لأي علوم ومعارف إنسانية وبتجاهل واضح لكل تقدم حضاري، وبتجاوز سافر لجميع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ومن ثم يترتب على ذلك الترويج لبعض الأفكار التراثية البالية التي عفا عليها الزمن منذ زمن والتي تتطلب عقولاً ناقدة لدحضها ورفضها والتعامل معها في ظل سياقها التاريخي والحضاري. أما وأن يتم استدعاء مثل هذه الأفكار والأفعال الهدامة اليوم، وبتجاهل واضح ومتعمد لكل تقدم أحرزته الإنسانية على مدار القرون الماضية، فهذا يُعد تدميراً للحضارة الإنسانية.
      ويقوم إرهابيون في عدد من الدول المختلفة بين الحين والآخر بالاعتداء على كنائس وعلى مسيحيين وعلى مؤسسات الدول، وهذا الإرهاب يؤكد أن هناك أصوليات دينية وهناك أصوليات عرقية وعنصرية كما أن هناك أصوليات قومية، والأصوليات الدينية والعرقية و القومية هي جميعها مدمرة للإنسانية، وإن كانت الأولى هي أشدها جهلًا وغباًء وتعصبًا وقتلًا، وهذه الأصوليات على تنوعها تتوهم أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وكذلك هي تتبنى أفعل التفضيل فترى نفسها الأسمى والأعرق والأعلى والأصوب، و....و ...، ومن المؤكد أن هذه الأصوليات تعمل على تدمير الحضارة الإنسانية, وما حدث في سريلانكا، وما يحدث في دول أوروبا، وما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2011، يؤكد أن الإرهاب أصبح ظاهرة سرطانية كوكبية، لذا فإنه يحتاج لمكافحة كوكبية، فهل نأمل في أن يتبنى عقلاء كوكبنا خارطة طريق تخرجنا من نفق الأصولية المظلم؟!!



المهندس/ محمد البدري
المشروع الأصولي وغياب الديمقراطية.
المهندس/ محمد البدري

     في غياب الديموقراطية يبرز الدين في المجتمع والدولة وتسود مفردات خطابه علي ألسنة الافراد. وباستمرار الغياب تسود الهيمنة الدينية علي العقل ذلك لأن العقل كجهاز ضمن التركيب الانساني هو حالة حاضرة تثبت كل ما جاءت به النظرية الداروينية قديما من فرضيات اكتساب الصفات والتكيف مع البيئة وبقائها وبالتالي توريثها واعادة انتاجها. وفي سياقات مجتمعية تتسم بغياب الديمقراطية، يروج الخطاب الديني الاني بأشكاله ومصادره كافة، لفكرة عودة الخلافة الاسلامية أو علي الاقل البكاء عليها كمقدمة للمطالبة بقوة لعودتها. إنه ذات خطاب الاصولية الداعي للخلافة الاسلامية. ولقد كان تواجد قدر ولو متواضع من الديموقراطية بنزعتها التحررية كفيلاً بكشف وفضح مشروع الخلافة الذي فرض علي المصريين من خارج وطنهم. وهذا بالضبط ما جري في الفترة الليبرالية المصرية حيث تعددت القوي السياسية وكان حضورها ديموقراطياً بقوة في الواقع هو الضمان لخروج الكتاب العمدة في فضح دعوة الخلافة الاسلامية زمن تولي الملك فؤاد السلطة. قدمه الازهري الكبير د. علي عبد الرازق في كتابه الاشهر في تاريخ المصريين وعنوانه " الاسلام واصول الحكم". ولذات السبب ظهر د. طه حسين بعظمته التي اكسبته لقب "عميد الادب العربي" ليعلن للمصريين ضرورة استخدام منهج الشك للوصول الي الحقيقة بحثاً وتنقيباً عنها. مسلسل طويل من المثقفين والفلاسفة والنخب الفكرية مثل سلامة موسي علي سبيل المثال وليس الحصر. فهل كان ممكنا اكمال مشروع طه حسين وعلي عبد الرازق وغيرهم لولا قطع الطريق علي المصريين والتوجه بهم شرقا الي صحراء العرب بمشروع عروبي وكأنهم مختطفين في قافلة تتاجر في النخاسة .كانت العلمانية هي البديل الحتمي بناءً علي قواعد كتابي "الاسلام واصول الحكم" وكتاب "في الشعر الجاهلي" بعد النهاية الفاجعة للمشروع العروبي. لفظ العلمانية متواري وليس في خطاب مدعي الثقافة، اليس هذا سيناريو ما حدث في فرنسا بكتب جان جاك روسو وفولتير. فاين هي فرنسا واوروبا بأكملها مقارنة بالحالة المصرية؟ كان انقطاع التواصل مع الفترة الليبرالية والاختطاف في قافلة النخاسة العروبية، كفيل بأثبات الشرح الوافي الذي لخصه المفكر سلامة موسي عن الداروينية عندما اقتبس من مفكر امريكي القول: ان حرية الفكر هي حرية البَوْح بالأفكار ووضعها موضع التطبيق. وهو قول سيفتح ما هو ابعد من نظرية داروين القائلة بتطور الكائن كرد فعل لتطور البيئة، مستهلا طريقا جديدا اذا ما تأملنا في قوله بان البيئة الاجتماعية نفسها ستتغير عندما يتغير العقل الانساني المقيم فيها. انها ما بعد الداروينية الكلاسيكية، انها قلب الهرم الدارويني التقليدي ليصبح العقل الديموقراطي العلماني وكانه الخالق للبيئة التي يراها هو صالحه له للعيش فيه.



image


.د/عماد عبد الرازقي
سؤال النهضة في فكر سلامة موسى.
ا.د/عماد عبد الرازق

      سلامة موسى مصلح من طلائع النهضة المصرية، وهو رائد من رواد الاشتراكية المصرية، ومن أوائل المروجين لأفكارها. عرف عنه اهتمامه الواسع بالثقافة، واقتناعه بالفكر كضامن للتقدم والرخاء. وسلامة موسى كاتب محير ومثير للضجة والعواصف الفكرية في عصره وما بعد عصره. ولعل سؤال النهضة يمثل أهم المحاور في فكره، لأنها من أشد المعارك الفكرية التي خاضها، في محاولة منه لكسر الجمود الفكري للمجتمع ،ومحاربة التقاليد البالية بهدف إلحاق مصر بركب الحضارة العالمية. ولعل مؤلفاته تعكس اهتمامه بالنهضة والرغبة في التحرر والتنوير ،ومن أهم هذه المؤلفات النهضة الأوربية، والحرية وأبطالها في التاريخ.
      ويرجع هذا الاهتمام بالنهضة إلى تأثره بالثقافة الغربية عندما سافر إلى أوروبا ،وخاصة فرنسا وانجلترا. فعاد إلى مصر متأثرا بتلك الثقافة الغربية ،وكان يريد أن تكون مصر قطعة من أوروبا ،وتنفض غبار التخلف والجهل والأمية. ومن هنا ركز على قضايا النهضة ورفض الفكر الديني الغيبي، ودعوته للتحرر والعلمانية ،وإيمانه بالاشتراكية كوسيلة لتحقيق العدل الاجتماعي. وتعتبر نظرية التطور عند دارون هي الأساس في كتابات سلامة موسى حول النهضة . لأنه يريد أن يتخلص الشرق عموما ومصر خصوصا من التبعية والتخلف. وكان سلامه موسى يرى أن النهضة لن تتحقق إلا بالاتجاه الكامل نحو أوروبا، كما كان يدعو للتزاوج من الغربيات لتحسين النسل. ويتضح هذا في كتابه(مقدمة السوبرمان) الذي ألفه بعد عودته من أوروبا وينتقد فيه الفكر الديني والإيمان الغيبي والذي يرى فيه تخديرا للشعوب وأغلالاً لأيديهما. ومن هنا يشير إلى ضرورة التخلص من الرابطة الشرقية والتحرر من كل قيود الدين والتراث والأخذ بالحضارة الغربية بكل جوانبها وترك كل ما هو شرقي دينياً وسياسياً واجتماعياً . وأعلن ذلك صراحة بقوله هذا هو مذهبي الذي أعمل له طوال حياتي، فانا كافر بالشرق مؤمن بالغرب وفي كل ما أكتب أحاول أن أجعل قرائي يولون وجوهم نحو الغرب ويتنصلون من الشرق.
      ورسالة المثقف من وجهة نظر سلامة موسى أن يوجه قراءه نحو الغرب ،لان الرابطة الشرقية سخافة، والرابطة الدينية وقاحة. ومن ثم فالنهضة لن تتحقق إلا بالاتجاه الكامل نحو أوروبا ،وغرس قيم وعادات الرجل الأوروبي في مجتمعاتنا. وكان يقول في هذا السياق إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وان ننتصر على المستغلين ونخضعهم ثم نعجز أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا. ولقد عبر سلامة موسى عن أفكار النهضة من خلال نقد أحوال المجتمع الراهنة والتي دعا فيها الى إحداث تغيرات جذرية في الثقافة المصرية ،لأنها هي الخطوة الأولى في تحقيق الحضارة. والتغيير الثقافي عنده ليس تغييرا ظاهريا أو جزئيا بل كان يسعى إلى إحداث انقلاب ثقافي يشمل أوجه التغيير كافة في المجتمع المصري. وكان يرى أن الثقافة تعني العلوم والفنون والعقائد والعادات. ونخلص إلى أن النهضة عند سلامة موسى هي أن نولي وجوهنا شطر الغرب، والأخذ من الغرب في كل شيء وتطبيقه على مجتمعاتنا الشرقية.



د.سامية عبد الرحمن
سلامة موسى: التنوير بين الفلسفة والعلم والدين.
د.سامية عبد الرحمن

      يعتبر سلامة موسى من أبرز المفكرين التنويرين الذين أثروا الفكر المعاصر طوال العقود الخمسة الأولى من القرن العشرين . بدأت علاقة سلامة موسى بالغرب في عام 1906، وكانت فرنسا بالنسبة له مرآته الأولى على الحضارة الأوربية. ففي كتابه: هؤلاء علموني1953يذكر مدى إعجابه بالمجتمع الفرنسي ودستور الدولة وقوانينها التي تكفل الحرية للجميع ولا سيما المرأة. أما كتابه :"السوبر مان " فقد أوضح فيه أيضا مدى تأثره بالغرب ، ودعوته للمجتمع المصري إلى التشبه به ومحاكاته في كل شيء .يقول في مقدمة كتابه "اليوم والغد": إذا ما أردنا أن ننهض بمجتمعنا علينا أن نولي وجهنا شطر الغرب، وإلى مثل هذا الرأي يذهب بعض مفكرينا أمثال رفاعة الطهطاوي، وزكي نجيب محمود . قرأ سلامة موسى أدب " فولتير" وتأثر بأفكاره ومبادئه حول نبذ الاستبداد والعنف والتعصب ، والدعوة إلى الحرية والتسامح, ... كان يمتاز بالتفكير العلمي ، ودعا إلى الاهتمام بشتى مجالات الفكر الإنساني :الأدب والفلسفة والعلم والفن...ويرى أن الأمة التي تهمل العلوم إنما تهمل حياتها ...وكان يريد أن ينتشر العلم في كل مكان ، وتتحرر المرأة ، ويختفي الفقر والجهل والمرض، وفي كل هذا كان كاتباً مستنيراً ... وقد اعتبر المجتمع العربي عموماً والمجتمع المصري بصفة خاصة مجتمعاً رجعياً متخلفاً تسيطر عليه التقاليد والأعراف البالية، ولا علاج لهذا إلا بمحاربة كل مصادر الجهل والخرافة، ودعا إلى التوجه بالنقد أولاً إلى التراث العربي بكل ما فيه ، ودعا إلى القطيعة مع هذا التراث الذي عده عائقاً لتقدم الأمة ونهوضها. ونتيجة لهذه الآراء التي جاهر بها ؛ إضافة إلى إيمانه بنظرية التطور دخل في معارك وسجالات عديدة ولكنه لم يتراجع عن مشروعه التنويري . أما عن موقفه من الدين فقد أشار إلى أن ديانته الحقيقية. هي الفلسفة ، وليس هناك تعارض بينها وبين الدين فقضيتهما. واحدة وهي كيف نفكر التفكير السليم ، ونعيش حياة طيبة، فديانته هي الإنسانية بما تحوي من شجاعة ومروءة ورحمة وجمال.
      وفي كتابه "تربية سلامة موسى يقول: "إنني أؤمن بالمسيحية واليهودية والإسلام ، وأحب المسيح وأعجب بمحمد ؛ وأستنير بموسى وأهفو لبوذا ...كل هؤلاء أقربائي في الروح ...وواضح هنا أنه مع العقيدة في جانبها الروحي الإيجابي . وقد أراد سلامة موسى أن يحرر عقل الفرد من ضغوط التقاليد وسيطرة الأوهام ..فدعا إلى فصل الدين عن الدولة . وعلى الرغم من اختلاف المفكرين والباحثين بشأن شخصية سلامة موسى إلا أنهم يكادون يتفقون على أنه مفكر إصلاحي تنويري مجدد ، ساهم بشكل كبير في إيقاظ المجتمع من سبات الجهل والتخلف ، ونشر الوعي والإيمان بالتغيير كأساس لتطور المجتمع والوجود الإنساني

كاتب وكتاب

د سمير فاضل
الكتاب :- دليل الاستبداد والمستبدين
الكاتب :- بروس بيونو دو مسقيتا
ترجمة د . فاطمة نصر
الكتاب صادر عن مكتبة الأسرة " الانسانيات " سنة 2014

د سمير فاضل


     يقع الكتاب في حوالي 264 صفحة من القطع المتوسط، ويتناول الكاتب في مقدمة الكتاب القواعد التي تتبع في نظم الحكم في العصر الحديث ، ويقول تمدنا الحياة السياسية بألغاز لافته ، تصدمنا العناوين الرئيسية كل يوم وتفاجئنا ، نسمع يوميا عن الخداع والاحتيالات والمغالطات والمخاتلات من قبل مدراء كبريات الشركات عن أكاذيب جديدة وممارسات وحشية، بل وأعمال قتل تنفذها القيادات الحكومية، معها لا نملك سوي أن نعجب أي مثالب في الثقافة أو الدين أو التنشئة أو الملابسات التاريخية بإمكانها تفسير صعود هؤلاء المستبدين الأشرار وبارونات النفط المراوغين، وهنا يطرح الكاتب مقولة لوليم شكسبير تقول أن العيب لا يكمن في الأقدار بل فينا ، أو في قادتنا علي وجه التحديد ؟، ويقول الكاتب أن غالبيتنا يقنع نفسه بهذا الاعتقاد ، هذا علي الرغم من أن الحقيقة ليست كذلك بإطلاقه .
      وقد حاول الكثيرون تفسير السياسة من خلال أسلوب رواية القصص حيث يتفحصون سبب إمساك أحد الزعماء بالسلطة، أو كيف ثار شعب إحدى البلاد شاسعة المساحة علي حكومته ، أو أن السبب في أن إحدى السياسات التي نفذت في السابق قد أضرت بمصائر الملايين وعكست أقدارهم، وعادة ما يستطيع البعض بتلك التفسيرات أن يخبرنا بما حدث ولماذا حدث ، ومن تحت تفصيلات الكثير من القصص السياسية والسرود التاريخية التي نقرأها ، تظهر أسئلة المرة تلو الأخرى ، أسئلة بعضها عميق وتبدوا الأخرى أسئلة ثانوية ، لكنها تظل تؤرقنا في مؤخرة أذهاننا ومن بين أهم تلك الأسئلة: لماذا يظل المستبدون ممسكين بالسلطة لفترات طويلة ؟ وبالمقابل لماذا لم يمكث هؤلاء الديمقراطيون في الحكم سوي لفترة وجيزة ؟ وكيف تتمكن البلاد من البقاء طويلا في ظل هيمنة سياسات اقتصادية مضللة وفاسدة ؟ ولماذا تظل البلاد المعرضة لحدوث كوارث طبيعية غير مستعدة لها في غالب الاحيان حينما تقع ؟ وكيف تظل شعوب البلاد الغنية بمواردها الطبيعية يعانون من الفقر ؟ ولماذا يضطلع قلة من الأفراد بالمراكز القيادية في كبريات الشركات التي تقوم علي أكتفاها مسئوليات جسام ؟
      يقول الكاتب " تروق لنا قصص البشاعات التي يأتيها السياسيون أو مدراء الأعمال وأساليبهم المنحرفة وذلك لأنها تمنحنا حرية الاعتقاد بأن سلوكنا سيكون مختلفا لو أوتينا الفرصة مثلهم .
      لقد جعلنا المنظرون السياسيون وأصحاب إمبراطوريات الأخبار في حالة من الجهل بتلك القواعد والأحكام ، وارتضوا بلوم من يفعلون الشر دون تقصي أسباب أن عوالم السياسة والأعمال تبدوا وأنها تعين الأوغاد وتحميهم أو تحول الأخيار إلي أشرار ، ولهذا السبب فمازلنا حتي الآن نسأل نفس الأسئلة القديمة ، ومازلنا نبدي دهشتنا لتفشي حالات ندرة الغذاء في أفريقيا ، بفعل الجفاف وبعد 3500 سنة من نجاح الفراعنة في التوصل إلي الوسائل السليمة لخزن الحبوب .
      ويطرح هذا الكتاب بإيجاز تفسير منطقي للسلوك البائس الذي يتسم به الكثير من القادة سواء في الحكومات أو في مجالات الأعمال، والهدف هو تفسير السلوكيات السيئة والحسنة، من دون اللجوء إلي أي مزاعم عاطفية أو تشهيرية ، كذلك يطرح هذا الكتاب تفنيد تشابكات المنطق والأسباب التي تكمن خلف الأسلوب الذي يتبع في حكمنا ويجري تنظيمنا وفقا له .
      وفي العدد القادم سوف سوف نقدم عرضاً موجزا للفصول التي احتواها هذا الكتاب ، والذي يعتبر واحداً من أفضل الكتب التي صدرت خلال السنوات الماضية ، حاول الكاتب من خلاله شرح بيان أسباب الحكم المستبد .

اﺗﺼﻞ ﺑﻨﺎ

رأيك يهمنا

"Show Menu"